كتب د. الدكتور طارق رضوان جمعه مجلة اخبار الطبيعة
عُقدة النقص ... Inferiority Complex
بقلم المفكر والأديب المصرى
د. طارق رضوان جمعه
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ...سورة يوسف(3)
رحم الله الإمام الشافعي حين قال :" كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي و اذا ما ازددت علما ازددت علماً بجهلي."
رسالتي وراء هذا المقال هي العثور على الجمال في النقص. نعم هناك جمال فى النقص. فهذه سنة الله في خلقه. إن ما يثير اهتمامي في الكتب السماوية بشخصياتها التربوية هو أن الله عز وجل يدرك أن بنا نقصاً لا يجبره ولا يرفق به ولا يعلم طرق إصلاحه إلا هو سبحانه عز وجل تنزه عن كل نقص، فجمال وكمال الله بالطبع يختلف عن جمال المخلوقات. ولكن الله يستخدمهم على أي حال وبطرق مهمة.
وقد يتعجب البعض من أن للنقص النفسي جمال، ولكن الضوء لا يدخل إلا من الشقوق. فلا يمكنك الوصول لهدفك من الكمال النفسي والتصالح الذاتي إلا حين تدرك أن النقص الذى بداخلك نعمة وهو جوهر وجودك، فعليك أن تتشبث به وتُصلح ما به من عيب .عليك أن تتعامل مع طاقته السلبية لتحويلها إلى جوانب إيجابية. وهذا فن الحياة وفن التعامل مع الذات. فالعاقل من يبدأ الإصلاح من داخله ويبدأ بنفسه أولاً.
ولك أن تقرأ عن يوسف الصديق نبى الله وكيف وصل لقمة العزة التي أرادها الله له بعد مراحل مر بها من التصالح النفسي وبعد ما عاصر من عيوب إخوته ومجتمعه.
من هنا تجد أن النقص هوما يمنحنا الإلهام وليس الامتلاء أو الغرور. فهل هناك نور بلا ظل؟ وهل هناك كمال بلا عيب؟ فلا داعى لغضبك المستمر بسبب نقص ما لديك تعلمه ولا تعمل على تقويمه، بل اترك مساحة للعيوب ولا تجعل رغبتك في الكمال تقتلك وتفسد عليك لحظات المتعة في رحلة الكمال النفسي والذهني. فمن المؤسف أن تعتبر أن كل زيادة في معرفتك هي انخفاض متزامن، أنت بهذا تجعل من اليقين الجديد شك جديد وتصنع من حياتك حياة مميتة ومملة.
لا تلفت دائما لنقض الأخرين بنظر حاد وتنسى ذاتك فهي مشروعك الذى يجب أن تعمل عليه وتزكيه ليلاً ونهاراً. روحك ونفسك وذهنك هم رأس مالك واستثمارك.
النقص كنز لمن يغتنمه فحيث يوجد الكمال لا توجد قصة ترويها. لا يوجد ما يستهويك للحياة. فحين تنظر إلى ما وراء العيوب، ستجد سعادتك. لذلك طبيعة الكون هى النقص فلا يكون كل شىء مثالي. فماذا لو أنك أهملت رحلة الكمال النفسي بداخلك وضيعت وقتك وعمرك في عاطفة غريبة هى ندم تافه؟ الندم عاطفة تفتقر إلى الفورية والا كان بإمكانه فعل بعض الخير. فلا تضيع وقتك بين أنيابه.
يقول على الوردي :" إن الكمال في كل شيء مستحيل. فمن طبيعة الحياة أن تكون ناقصة لكي تسعى في سبيل سد هذا النقص فلا تقف." ويرى أبو حامد الغزالي أن نقص الكون هو عين كماله ، مثل اعوجاج القوس هو عين صلاحيته و لو أنه استقام لما رمى.
وتظهر عقدة النقص والشعور بالدونية من خلال التحدث والتفاخر بشيء ما. فالمفتخر بشيء ما انما هو في الحقيقة يفتخر بما ينقصه وما ينشد أن يملكه بالفعل.
من الكمال أن تدرك نقصك ، ومن النقص أن تظن بأنك كامل.
عليك أن تبدأ بإصلاح ذاتك ولا تنتظر من الأخرين أن ينتقدوك. لا تعطى أحد الأذن بالموافقة أن ينتقدك باستمرار ويعكر صفو حياتك. فلا أحد يمكنه إشعارك بالنقص بدون موافقتك
وذكر الأستاذ صلاح عبد الصبور في كتاباته أن شهوة إصلاح العالم هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر لأن كل منهم يرى النقص ولا يهرب منه أو يتجاهله أو يتجاوزه بل يعمل كل ما في وسعه من أجل أن يجد وسيلة لإصلاحه.
لا تملأ النقص الذي لديك مما توفر في جيوب الآخرين من سعادة ، محبة ، مال ، سمعة ، فضيلة ، جمال ، عقل .. الخ ، لأن جميع ما ذُكر هو في الأصل غير فائض عند الآخرين ويكاد لا يكفيهم لحين انتهائهم من الحياة سواء بالإرادة الذاتية أو الإلهية !
ذكر أحدهم لـسقراط أن رجلاً من أهل النقص يحبه فاغتم لذلك وقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه.
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى قيل إني جاهل … فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل...ابو العلاء المعري
والأمر بالنسبة للمؤلف والكاتب أعظم وأشد فمنهم من يفتقر إلى القوة الموحية. وعندما يفتقر الكتاب إلى القوة الإيحائية ، لا يستطيع اختراق سطح العقل مهما كان قوته.
فالعُقد النفسية هي مجموعة حالات نفسية محددة ينتهي إليها الفرد بسبب الكبت المتواصل لمشاعر تألفها النفوس كالشعور بالاستعلاء والشعور بالذنب أو الغيرة أو الحقد أو الأنانية والشعور بالنقص والدونية ويجد الفرد نفسه عاجزاً عن إظهار هذه المشاعر بسبب الخوف من العقاب أو الخجل من ردة فعل الآخرين تجاهها أو يلجأ لطرق ملتوية لإفراغ مشاعره المكبوتة ولكل فرد منا غرائز فطرية ومتطلبات نفسية وإن التطرف والانحراف فبإرضاء هذه الغرائز يؤدي إلى نشوء العقد كما في غريزة حب الذات وغريزة حب الاستطلاع وغريزة حب التملك والغريزة الجنسية.
ما سبب عُقدة النقص؟
أحد وأهم أسباب عقدة النقص هو الافراط الزائد في الحنان من قِبَل الوالدين في عمر الطفولة.
يقال أنّ هتلر وموسوليني وفرانكو وستالين كانوا على شاكلة نابليون من قصر القامة ، وأنهم حاولوا تعويض شعورهم بهذا النقص من خلال الحصول على قوة الشخصية وجمع النفوذ السياسي في سلطتهم بعد ان عز عليهم ان يغيروا ما وهبهم الله اياه من اجسام وقامات !
واجه عيوبك واعترف بها ، لكن لا تدعهم يتحكمون فيك. دعهم يعلمونك الصبر والعذوبة والبصيرة. وهذا ما نصحت به هيلين كيلر بعد تجربة حياتية مُشرفة.
تعليقات
إرسال تعليق